ميتا تك

ماركو مالفالدي مقاس الإنسان

كتب – حاتم عبدالرحيم 


في بعض الأحيان تثير رواية ما انتباهك وتجذبك، حتى قبل أن تفهم مسار القصة. هذا ما يحدث مع رواية مالفالدي الراوي الرائع. «مقاس الإنسان» رواية ساحرة تعيد بشكل ذكي تخيل فترة محورية من تاريخ عصر النهضة في إيطاليا. وتسرد وقائع حياة ليوناردو دا فينشي خلال فترة عمله في خدمة لودوفيكو أمير ميلانو. كان ذلك وقت تغييرات سياسية مضطربة، وتحديات كانت تواجه النظام الديني السائد. مع ذلك فكان ذلك هو عصر الفن والأدب والاكتشافات العلمية والنمو الثقافي. إنها رواية مليئة بالتناقضات، ونستمتع فيها بأسلوب مالفالدي السلس، وفيها ينجذب القراء إلى المكائد الدبلوماسية المعقدة لعصر وحياة العظماء والأقوياء. بينما نرى أن مالفالدي يضخ بين الأسطر مصطلحات من هذا العصر ومقاييس حديثة يلون بها روايته بين الحين والآخر. وهكذا نرى ليوناردو من وجهة نظر أشخاص من حوله، ولكن أيضاً في السياق المعاصر الحديث. وينطبق هذا على لودوفيكو أيضاً. وهنا يقول مالفالدي: أنا لا أريد أن أرى أبطالي كقديسين، بل أحتاج إلى فهم إنجازاتهم كبشر، أريد أن أراهم وهم يسيرون على أقدام حقيقية من لحم وعظم، أريد أن تكون شخصياتهم معقدة وواضحة العيوب. وهذا ما قدمه لنا مالفالدي عند رسم صورة ليوناردو. قد يبدو عالم عصر النهضة مختلفاً جداً، لكن الحياة تدور فيه هنا حول الحب والخسارة والطموح والأخلاق والحاجة.


ليوناردو ليس شيئاً مميزاً، ومع ذلك فهو مفكر استثنائي. لذا، فإن «مقاس الإنسان» هي رواية عن ليوناردو دا فينشي خلال فترة وجوده في ميلانو: رسام، وعالم تشريح، ومهندس، وعالم، ومخترع. تمكن مالفالدي من نقل طموح الرجل وذكائه وبعد نظره، لكن حياته الدنيوية أيضاً وتسويات وهزائم وعادات الرجل. كان دافنشي عبقرياً، لكنه إنسان من البشر أيضاً (وإن كان سابقاً لزمانه) وقد تعرض للفشل مثل غيره. وهناك في قلب الرواية علاقة ليوناردو مع لودوفيكو سفورتسا إيل مورو، دوق باري وحاكم ميلانو. ومن أهم العناصر الرئيسية في علاقة الاثنين، أي علاقة السيد مع الخادم هذه، هو إقامة نصب تذكاري للورنزو العظيم، نصب حصان ضخم يزين ساحة كبيرة خارج القصر، ويبلغ ارتفاعه سبعة أمتار، وهو أكبر تمثال تجري محاولة صبه بالبرونز، ضخم بمقدار ضخامة عبقرية ليوناردو. لكن هذا المشروع لم يتحقق أبدا بل بقي نقطة خلافية بين الرجلين.


في المقدمة نرى رجلاً يشق طريقه عبر الشوارع الرطبة المظلمة في مدينة فوضوية مترامية الأطراف، ويعتقد ليوناردو أنها مدينة تحتاج إلى إعادة تصميم، فلقد سبق له وأن تاه فيها من قبل.


بعد ذلك نرى أن لودوفيكو يعمل على تخفيض عدد أعضاء مجلسه الذين لا يمكن السيطرة عليهم ليصبحوا ستة أعضاء فقط، من الموثوقين. كما يعين يومي الثلاثاء والجمعة لجلسات الالتماس، حيث يمكن لأي شخص أن يطلب مقابلة زعيم ميلانو. شريطة أن يكون من دافعي الضرائب.


نسمع في الرواية أيضاً عن دعوات لاستقلال الكنيسة اللومباردية عن الفاتيكان في روما. وعن قلق روما من السماح باستقلالية التفكير أكثر من اللازم. فضلاً عما أثاره سافونا رولا من مشاكل في فلورنسا. لقد أصبحت ميلانو بسرعة أغنى دولة في إيطاليا، في قطاع المصارف والتجارة والعلوم والرياضيات والطب والفن.


أصبح لودوفيكو سعيداً الآن بعد أن وافق الإمبراطور الروماني المقدس ماكسيميليان على الزواج من بيانكا ماريا في عيد الميلاد، ذلك ليتكرس التحالف بين الإمبراطورية وآل سفورتسا. ومع ذلك فقد بقى لودوفيكو ساخطاً وخاصة عندما أشار إلى ليوناردو وقال له إن فناء القلعة فارغ رغم سعته، وأنه وظفه أي ليوناردو بناء على وعد قدمه قبل عشر سنوات بتشييد نصب تذكاري للورنزو العظيم. لحسن الحظ أن جواب ليوناردو كان حاضراً، فقال إن النموذج الطيني بالحجم الكامل أي بارتفاع سبعة أمتار سيكون جاهزاً خلال عشرة أيام.


أما في فرنسا فكان جلالة الملك تشارلز الثامن يدرس الحرب وغزو نابولي. لذلك فقد أرسل الملك جواسيسه إلى ميلانو لمراقبة لودوفيكو ولكن أيضاً ليوناردو. يتعثر خادم لودوفيكو بجثة رجل مرمية في فناء القلعة. لم تر علامات واضحة تشير إلى كيفية وفاة الرجل الذي كان قد جاء قبل يوم فقط ليطلب حضور جلسة الالتماس في مجلس لودوفيكو. ماذا لو كان قد مات بسبب الطاعون؟ يجب أن يحصل لودوفيكو على جواب. وكان يعرف عن تجارب ليوناردو الليلية في علم التشريح، وكان يتغاضى عنها، رغم ما قد تسببه من مشاكل له. لأن لودوفيكو يحتاج إلى مواهبه. وهكذا فسرعان ما أثبت ليوناردو أن الرجل مات ضحية «شرور البشر» – لقد قتل.


إنه عالم مليء بالدسائس والمناورات السياسية والدينية. إمبراطورية تبنى على أعتاب العصر العلمي، لكنها ما زالت غارقة في الخرافات وبتحضيرات الحرب القادمة. «مقاس الإنسان»، صورة موثوقة عن ليوناردو دا فنتشي وزمنه. لكننا لن نعرف أبدأ فيما إذا كان ليوناردو قد تمكن من حل مشكلات البرونز الفنية، خاصة وأن الحرب جعلت البرونز ضرورياً للمدافع أكثر منه للتماثيل. رواية أفكار ممتعة للغاية. شغف . بالتاريخ والفن، ثاقبة وسهلة القراءة. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى